Site icon Marocuniversel – جريدة وطنية شاملة ومتجددة

فلسطين و الصحوة الجماعية للوعي العالمي..

لحسن حداد سياسي و أستاذ جامعي مغربي، عضو في حزب الحركة الشعبية شغل منصب وزير السياحة في حكومة بنكيران، منذ 3 يناير 2012 وبقي في هذا المنصب إلى غاية 2017.

أصبحت فلسطين بالنسبة للكثير هي أخر القضايا العادلة التي تُلهِم نضالات الكثير في مختلف أنحاء المعمور وعبر ثنايا الفضاء الرقمي المترامي الأطراف. في غضون أسابيع قليلة فقط بعد بداية الهجوم الإسرائيلي على غزة، والذي تلى ما سمي بعملية “طوفان الأقصى” الذي نفذته حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023، نجحت حركة “فلسطين الحرة” في حشد الملايين من الناس لصالح العدالة والسلام ونظام عالمي جديد يقوم على الحقوق المتساوية والشعور بالتعايش السلمي والتعاون والتعاضد بين الأمم.

لا يمكن الحديث عن “رُبَّ ضرَّةٍ نافعةٍ” حين يتعلق الأمر بالرعب والقتل والإبادة الجماعية؛ ومن “غير الأخلاقي” الحديث عن بصيص أمل حين يتعلق الأمر بالدم والدمار  وموت الأطفال الأبرياء والنساء والمسنين، وبالمعاناة المأساوية لـ 2.3 مليون مدني فلسطيني عُزَّل، محاصرين على شريط صغير من الأرض، تحت وابل من القنابل تنهمر عليهم يوما بعد يوم منذ نحو ثلاثة أشهر.

“هدايا الجحيم”  هاته يتم إرسالها يومياً من قبل حكومة إسرائيلية متطرفة وجيش (مكوَّنٍ على  إرهاب الفلسطينيين) عازمين على الانتقام، معتمدين على نوع من الشعور بالتفويض التوراتي  وبمساعدة الغرب وتواطؤ فاضح من الغرب) للقيام بتطهير عرقي للفلسطينيين من أراضيهم.

ومع ذلك، فإن بصيصاً من الأمل والنور يظهر خلف الفظائع والشنائع ومظاهر الرعب التي ترتكبها إسرائيل في غزة: لقد هب الجميع من مختلف أنحاء العالم لمناصرة الفلسطينيين في غزة مما يعني أن روحا جديدة من العمل الجماعي من أجل القضايا الدولية العادلة بدأت تتطور حول بؤرة المعاناة الفلسطينية والنضال والكفاح الفلسطينين. هذا ما أسميه “عمق سخريات التاريخ المحزنة”.

ربما تكون فلسطين هي آخر القضايا العادلة التي يناضل العالم من أجلها. تغير المناخ وتأثيره على أساليب العيش خصوصا لدى المجمعات السكنية الفقيرة عبر العالم هو قضية أخرى توُحِّد الضمائر الحية كذلك؛ ولكن بالنسبة للكثير، فإن “فلسطين حرة” تبدو قضية ملحة، وربما أكثر خطورة في آنيتها وطابعها المستعجل، بل إنها تشكل جسرا ملائما بين قضية تحرر فلسطين و أهمية خفض انبعاثات الكربون من أجل إنقاذ الكوكب.

كل منهما يشكل قضية وجودية بالنسبة للإنسانية، ولكن قضية فلسطين تكتسي ضرورة ملحة، لأنها مسألة حياة أو موت، لأن الكثير يرفضون أن يكونوا متفرجين سلبيين على إبادة جماعية يتم التوثيق لها بشكل فوري وحال وقوعها (وهو شيء لم نشهده في حالات الإبادة السابقة). وكما تقول غريتا ثونبرج، وألدي نيلسون، وجيمي ماتر، وراكيل فريشي، فإن “الدفاع عن العدالة المناخية ينشأ بشكل أساسي من التركيز على الناس وحقوقهم الإنسانية. وهذا يعني التحدث علنًا عندما يعاني الناس أو يضطرون إلى الفرار من منازلهم أو يُقتلون” (“لن نتوقف عن التحدث علنًا عن معاناة غزة – لا عدالة مناخية بدون حقوق الإنسان” الغارديان، 5 ديسمبر/كانون الأول 2023).

والتظاهر من أجل فلسطين جمع شتاتا مهما لم يجتمع في السابق إلا حوّل قضايا ذات أبعاد كونية. فالتقدميون والليبراليون والمعتدلون والوسطيون والأكاديميون والطلاب والصحفيون والفنانون والممثلون ومئات الآلاف من الناس العاديين والمواطنين الغاضبين، بما في ذلك الفلسطينيين واليهود غير الصهاينة، هم من يؤثت فضاءات التظاهر عبر أنحاء المعمور، حيث ينظمون ويتواصلون ويناقشون ويجتمعون للمطالبة بالعدالة، وإنهاء المجازر والتطهير العرقي والتهجير والاستعمار والفصل العنصري والإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين.

ولم نشهد قط هذا النوع من التحالف العالمي، باستثناء ما تعلق منه في الماضي بتغير المناخ ومكافحة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. ولذلك فهي صرخة مدوية عبر أنحاء المعمور شكلت ريحا منعشة للتقدميين والليبراليين ومحبي السلام خصوصا في هذه الفترة الحاسمة من تطور القضايا الكونية في علاقتها مع التحولات السياسية التي تعرفها المجتمعات الغربية والدولية على حد سواء.

ففيي الولايات المتحدة مثلا، وجدت الصهيونية (ولا أعني بها هنا ما يعنيه الكثير في العالم العربي أي كلما هو سيء في تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين ولكن الحركة التي تقول بأن فلسطين أرض ميعاد اليهود) حلفاء داخل حركة “لنجعل أمريكا عظيمة مجددا” (والتي نشأت حول الر ئيس السابق دونالد ترامب)  والجماعات المسيحية المتطرفة (ما يسمى بالمسيحيين الصهيونيين أي الذين يرون في إسرائيل وجودا حتميا للتحضير لعودة المسيح الثانية المنتظرة)؛ وفي هذا الخضم أصبح التقدميون والمعتدلون في حيرة من أمرهم، غير متأكدين من كيفية الدفاع عن الشعور بالعدالة تجاه الأقليات، وخاصة اليهود، وفي نفس الوقت أخد مسافة من حركات متطرفة مثل الصهيونية المسيحية والصهيونية اليهودية وحركة “لنجعل أمريكا عظيمة مجددا” المتطرفة، والتي تقول بمساندة إسرائيل كذلك (خصوصا وأن هذه الحركات اليمينية المتطرفة تقوم بخلط سافر ومُتعمَّد بين مساندة إسرائيل ومساندة اليهود كمجموعة تعاني من ويلات معاداة السامية).

لقد أعطت فلسطين للمجموعات التقدمية والمعتدلة ليس فقط معنى لنضالاتها ولكن أيضًا بعض الوضوح الأيديولوجي: إن تفَرُّد التجربة أمر مهم ولكن العدالة للجميع هي الطريقة الوحيدة لحماية المجموعات المضطهدة تاريخيًا مثل اليهود والسود والمسلمين والسكان الأصليين والمهاجرين واللاجئين والنازحين وغيرهم، الخ.

إن معاداة السامية تجربة فريدة من نوعها (خصوصا داخل التجربة الأوربية وذلك منذ القرون الوسطى حتى الحرب العالمية الثانية وبعدها) ، ولكن يتم استغلالها إلى حد الغثيان، وخاصة من قِبَل المؤسسة الإسرائيلية وأنصارها في الغرب. يحلل دانييل ليفي، وهو دبلوماسي إسرائيلي سابق، شارك في مفاوضات أوسلو الثانية ومفاوضات  طابا، استغلال معاداة السامية كوسيلة لتغيير “مجال النقاش” عندما تُتهَم إسرائيل بالفصل العنصري.

 لكنه يسلط الضوء أيضًا على كيف تسمح الجاليات اليهودية  المناهضة للسياسة الإسرائيلية في أوروبا لنفسها بأن تُستغلّ  في الحروب الثقافية في الغرب (كراهية الإسلام، والهجرة، وما إلى ذلك) لأن استخدام معاداة السامية من قبل دولة إسرائيل قد أدى إلى تهميش هذه الجاليات اليهودية إلى حد ما.  ومن الغريب أن اليمين المتطرف الأوروبي والأمريكي هو الذي يدافع عن إسرائيل في الصراع الحالي، بينما يدافع اليهود غير الصهاينة في أوروبا عن حقوق الفلسطينيين.

يعرف اليهود المؤيدون للفلسطينيين أنهم يعانون من نوع من الاغتراب القاسي للهوية، لكنهم يعتبرون أن هذا الاغتراب نفسه ضروري في مواجهة عالم إمبريالي يريد فرض التعايش القسري مع الصناعة الوحشية للعنف اللاإنساني في فلسطين.

المصدر: https://x.com/charliesingalls/

وهذا التعايش القسري هو الذي ينتفض ضده ملايين من الشباب في دول الشمال كما في دول الجنوب. ويتفاعل الشباب من الجيل Z”” (30عامًا أو أقل) مع العنف على أرض فلسطين (الحرب على غزة) والعنف الرمزي (السرديات الداعمة التي تنتجها الدعاية الصهيونبة) ويقودون الاحتجاج ضده عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي الجامعات وفضاءات عمومية أخرى. إن مستوى حشدهم متطور وفعال وواسع الانتشار لدرجة أنه دفع السياسيين والمنظمات المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى إلى اللجوء إلى الرقابة وإجراءات القمع المُرٍوِعة في أماكن العمل وداخل الكونغرس، وفي وسائل الإعلام، وفي المدارس والجامعات، وذلك لكبح جماحه لكي لا يؤثر على القرار السياسي الداعم لإسرائيل.

يَستخدِم ما يسمى بالعالم الحر الرقابة والقمع لإسكات الأصوات الناقدة التي تدافع عن الحقوق ذاتها التي ظل الغرب يتشدق بها على العالم منذ عقود. إن مفارقة النفاق الأخلاقي و”المعايير المزدوجة” لم تغب عن ذهن الشباب المدربين تدريباً جيداً على خطاب “العدالة للجميع”.

هكذا فإن شباب “تيك توك” و “انستجرام” يقاومون قوى التسلط الغربي والإسرائيلي على حقوق الفلسطينين مستعملين نفس القيم التي استخدمتها تلك القوى لفترة طويلة لإظهار التفوق الأخلاقي لدول الشمال على دول الجنوب والأمم الأخرى – وهو التفوق الذي أظهر الجيل “Z” الآن أنه لا يعدو عن كونه غطرسة فكرية تنبع من الرغبة في الهيمنة وخدمة الأجندات الاستعمارية المتجدرة في الفكر الغربي المتميز بالسيطرة والتقوقع على الذات وحماية المصالح الذاتية والتحكم والتعصب لكلما هو أبيض وأوربي…

تُحدِث تعبئة الجيل “Z” فرقًا كبيرًا في صحوة الوعي العالمي تجاه الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل في فلسطين متمتعة (أي إسرائيل) بإفلات تاريخي من العقاب وبحماية شديدة من الدول الغربية و ذلك منذ 75 عاما. وقال “خوان ب. فيلاسميل”، وهو محرر مساهم في “Spectator World” وأحد المتعاونين مع  “Young Voices”، “إن استطلاعات الرأي والوسوم وقصص الإنستغرام والاحتجاجات الجامعية تظهر أن جيلي، الجيل “Z”، أكثر تشكيكا في إسرائيل من الأمريكيين الأكبر سنًا .هكذا نجد أنه على منصة “تيك توك”، حيث نصف المستخدمين لا يتعدى سنهم 30 عامًا، حصل هاشتاغ #FreePalestine على 31 مليار مشاركة مقارنة بـ 590 مليون مشاركة لـ #standwithisrael، أي أكثر من 50 مرة (“لماذا الجيل Z هم أكثر مناصرة لفلسطين وضد إسرائيل؟ » The Hill ديسمبر ١١  2023).

لقد أثبت الجيل “Z” أنه قوة لا يستهان بها: فهم الناخبون وقادة الرأي والسياسة المحتملون في الغد. لقد كانت تعبئتهم من أجل #فلسطين_حرة استثنائية وخلقت تحولا كبيرا على المستوى الضمير العالمي والرأي العام الدولي.

وهناك مجموعة فعالة أخرى هم اليهود أنفسهم، وخاصة الكتاب والفنانون والمثقفون والأكاديميون والصحافيون والحاخامات الأرثوذكسيون غير الصهاينة، والمؤثرون على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي، وبعضهم من حفدة أو أبناء من نجوا من الهولوكوست، أي المحرقة الرهيبة التي خطط لها ونفذها النازيون بعناية فظيعة ضد اليهود في الحرب العالمية الثانية.

الشعار الذي استعمله اليهود الغير الصهاينه هو “ليس باسمي” ويعني “لن أقبل بأن تقوم إسرائيل بتقتيل الفلسطينيين باسمي كيهودي” وهو شعار ساعد في دحض فكرة أن النضال الفلسطيني موجه ضد اليهود وليس ضد المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين،  أي ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. (بالمناسبة حين استعمل مقولة “المشروع الاستعماري الصهيوني” لا أعني بذلك الشعور السائد في الأدبيات السياسية العربية حول فلسطين، ولكن أعني بها فكرة محددة تعني تهجير الفلسطينيين قسرا وإعمار الأرض بيهود يتم جلبهم من اوربا الشرقية ومن دول غربية في إطار عملية تطهير واستيطان منظمة تستهدف خلق كيان يهضم حقوق البعض من أجل حقوق توراتية مفترضة للبعض الآخر وذلك كتتمة لمشروع استثماري بريطاني/غربي بدأ في 1916 ولم ينته بعد).

اكتسبت هذه الحركة، أي حركة اليهود الغير الصهاينة، بقيادة باحثين وكتاب ومثقفين كبار، زخمًا  قويا خلال موجة الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين التي أعقبت هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 والتي زالت مستمرة إلى حد كتابة هذه السطور.

القائمة طويلة، لكني اخترت أن أسلط الضوء على البعض من وجوهها ذات التأثير الكبير:

– نعوم تشومسكي، العالم اللساني الشهير وأحد أشد منتقدي بنية الحكم في الولايات المتحدة والهيمنة الإمبريالية وإسرائيل.

– نورمان فينكلشتين، عالم سياسي أمريكي وناشط وحقوقي حيث تركز مجالات أبحاثه الرئيسية على سياسات المحرقة والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، و كان كتابه “صناعة المحرقة: تأملات حول استغلال المعاناة اليهودية” (2000) قد حدد التوجه العام لحركة بأكملها  تعهدت ودأبت على إنتقاد استغلال معاداة السامية من قبل المؤسسة اليهودية.

– عمر بارتوف، مؤرخ إسرائيلي المولد وأستاذ صموئيل بيزار لدراسات المحرقة والإبادة الجماعية في جامعة براون، بالولايات المتحدة، والذي يصف معاملة إسرائيل للفلسطينيين بالتطهير العرقي ويعتبر الهجوم على غزة شكلاً من أشكال الإبادة الجماعية.

– جون ج. ميرشايمر، وهو أستاذ الخدمة المتميزة في قسم العلوم السياسية في جامعة شيكاغو. يسلط كتابه “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية” (2007) الضوء على قوة اللوبي الإسرائيلي والسلطة  المفرطة وغير الدستورية التي اكتسبها منذ عقود في الولايات المتحدة.

– إيلان بابي، مؤرخ إسرائيلي من جامعة حيفا: أدى خلافه مع “المؤرخين الجدد” الآخرين إلى هجرته إلى المملكة المتحدة للتدريس في جامعة إكستر، ويعتبر كتابه عن “التاريخ العرقي التطهيري لفلسطين” عملاً مبتكرًا حول إعادة قراءة كيف تشكلت دولة إسرائيل.

-الدكتور كابور ماطي، الطبيب والكاتب الهنغاري/الكندي والذي كان قد نجا وهو صغير من الهولوكوست والذي ما فتيء ينتقد القمع والتنكيل الذي تقوم به إسرائيل ضد الفلسطينيين وينادي بإنهاء الاحتلال وضمان الحقوق الفلسطينية في دولة وكيان وطني خاص بهم.

– راز سيغال، مؤرخ إسرائيلي وأستاذ مشارك في دراسات المحرقة والإبادة الجماعية، ويشغل كذلك منصب رئيس كرسي دراسة الإبادة الجماعية الحديثة في جامعة ستوكتون. ووصف سيغال ما يحدث في غزة بأنه “حالة إبادة جماعية نموذجية” وربطها بالنكبة وطرد الفلسطينيين أثناء قيام إسرائيل عام 1948.

– ماشا جيسن، صحفي روسي أمريكي، كتب مقالا رائعا   بعنوان “في ظل المحرقة: كيف تحجب سياسات ذكرى المحرقة ومعاداة السامية ما نراه في إسرائيل وغزة اليوم” (ذو نيويوركر، 9 كانون الأول/ديسمبر 2023). وجراء ذلك قررت “مؤسسة هاينريش بول في مقر بلدية بريمن شمال غرب ألمانيا” إلى إلغاء الحفل الذي نظمته لتسليم جيسن جائزة هانا أرندت للفكر السياسي، وذلك أساساً لأنه قارن ما كان يحدث في “غزة قبل 7 أكتوبر” ب”الجيتوهات  اليهودية في أوروبا الوسطى تحت الاحتلال النازي” (سامانثا هيل، “هانا أرندت لن تتأهل لجائزة هانا أرندت في ألمانيا اليوم”، الغارديان، 18 ديسمبر 2023).

– دانيال ليفي، دبلوماسي إسرائيلي سابق وناشط سلام شارك في محادثات السلام مع الوزير يوسي بيلين خلال مفاوضات أوسلو الثانية وطابا.

– جدعون ليفي، صحفي وكاتب إسرائيلي، عضو هيئة تحرير صحيفة هآرتس.

– ماكس بلومنثال، كاتب ومدون أمريكي، ينتقد تحول إسرائيل إلى اليمين المتطرف وجرائم الحرب التي ترتكبها في فلسطين.

هؤلاء الأشخاص والعديد من اليهود غير الصهاينة كتبوا أو تحدثوا لمقارنة ما يحدث في غزة بما حدث  فيأوشويتز، أو لعقد أوجه التشابه بين غزة والغيتوهات اليهودية في أوروبا الوسطى في زمن حكم ألمانيا النازية، أو لتفكيك المعادلة بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، أو بين انتقاد الحكومة الإسرائيلية ومناهضة اليهود كعرق وكمجموعة إثنية.

وقد ساعد بعضهم، وهم متخصصون في جرائم الإبادة الجماعية والمحرقة، في إقامة أوجه تشابه بين جوانب معينة من المحرقة والفظائع التي ترتكب ضد الفلسطينيين في غزة وفي جميع أنحاء فلسطين الآن ومنذ 75 سنة . لقد لعب اليهود غير الصهاينة دورا مهما في تعبئة الأصوات التي أظهرت للعالم أن حركة “فلسطين الحرة” ليست ضد اليهود أو اليهودية، بل ضد الصهيونية كمشروع استعماري غربي يهضم حقوق مجموعة إثنية لصالح مجموعة إثنية أخرى.

في المقابل، منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، أي 2 نونبر 2023، نشر المئات من الكتاب والفنانين وصانعي الأفلام والمسرحيين والناشطين اليهود رسالة أكدوا فيها أن انتقاد إسرائيل ليس معاداةً للسامية، ودعوا الجميع (بما في ذلك رابطة مكافحة التشهير، وحكومة الولايات المتحدة والإسرائيليين أنفسهم) إلى التوقف عن استخدام معاداة السامية كسلاح لإضفاء الشرعية على اضطهاد الفلسطينيين، وانتهوا بدعوة الجميع للدفاع عن حقوق الفلسطينيين والمطالبة بوقف إطلاق النار ونهاية الاحتلال. ويقول كتاب الرسالة بأنهم نشروها تضامنًا مع أولئك الذين يواصلون التحدث علنًا عن الحرية الفلسطينية:

“نحن كتاب وفنانون ونشطاء يهود نرغب في دحض الفكرة السائدة على نطاق واسع بأن أي انتقاد لإسرائيل هو في أصله  معاداة للسامية. لقد استخدمت إسرائيل والمدافعون عنها منذ فترة طويلة هذا التكتيك الخطابي لحماية إسرائيل من المساءلة، وتعظيم استثمار الولايات المتحدة بمليارات الدولارات في الجيش الإسرائيلي، وإخفاء الواقع المميت للاحتلال، وإنكار السيادة الفلسطينية. واليوم، يُستخدَم هذا العذر الخبيث ضد حرية التعبير لتبرير القصف العسكري الإسرائيلي المستمر على غزة ولإسكات انتقادات المجتمع الدولي.

إننا ندين الهجمات الأخيرة ضد المدنيين الإسرائيليين والفلسطينيين ونأسف للخسائر في الأرواح. ومن دواعي ألمنا، أننا نشعر بالفزع عندما نرى مكافحة معاداة السامية تُستخدَم كذريعة لارتكاب جرائم حرب بنية الإبادة الجماعية المعلنة…” (رسالة مفتوحة من كتاب يهود، مجلة n+، https://www.nplusonemag.com/online-only/online-only/a-dangerous-conflation).

وكان من المفترض أن تنْشُرَ هذه الرسالة مجلة ذات انتشار واسع، ولكنه تم حذفها من قبل هيئة التحرير، ربما خوفا من رد فعل اقتصادي عنيف من المعلنين تحت ضغط اللوبي الإسرائيلي القوي في الولايات المتحدة. وأعتقد أن منع نشرها في هذه المجلة الدائعة الصيت أدت إلى زيادة الدعاية لصالحها وتوزيعها على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي.

وقد لعبت الأصوات الفلسطينية دورا مهما في تقديم صورة حميمية عن المعاناة الفلسطينية وصارت قوة لا يستهان بها في التحدث علناً ضد الظلم بلغة يمكن للرأي العالمي أن يفهمها. ونجح الكتاب والمدونون والمثقفون والدبلوماسيون الفلسطينيون  في استخدام خطاب حقوق الإنسان وأحكام القانون الدولي لإظهار التناقضات والمعايير المزدوجة للدول الغربية.

لقد وصف الناشطون الفلسطينيون ببلاغة الفظائع على الأرض والمجازر والمعاناة، وفي نفس الوقت وضعوا ما يحدث في غزة هذه الأيام من إبادة في سياق 75 عاماً من التهجير والقمع والحرمان من أبسط حقوق الإنسان ومن تقرير المصير لشعب بأكمله، ألا وهو الشعب الفلسطيني.

وتشمل القائمة التي اخترتها، انتقيتها اعتباطا لسبيل المثَل لا الحصر، من بين العديد من الأسماء النشيطة الأخرى والتي لا تقل أهمية وتجربة وتأثيرا، الأشخاص التالية أسماؤهم:

– حسام زملط، سفير فلسطين لدى المملكة المتحدة، وهو دبلوماسي محنك وبليغ وله اطلاع واسع، و متميز في تدخلاته عبر القنوات التلفزية وخلال ندوات ومحاضرات ونقاشات عديدة على هامش التعبئة الشاملة ضد جرائم الحرب في فلسطين.

– معتز عزايزة، المصور الصحفي من غزة: قبل 7 أكتوبر 2023، كان الحساب الشخصي لعزايزة على انستغرام يضم حوالي 25 ألف متابع. في 13 أكتوبر ، تم تقييد حسابه على انستغرام عندما قُتلت عائلته في غارة إسرائيلية، لكنه استعده في اليوم التالي. بعد ذلك وصل إلى مليون متابع في 17 أكتوبر، وتسعة ملايين في 30 أكتوبر، و12.5 مليون في 3 نوفمبر، و13 مليونًا في 7 نوفمبر (أبوبكر عابد، “معتز عزايزة: نافذة غزة على العالم”، العربي الجديد، 7 نونبر 2023).

اعتبارًا من 27 ديسمبر 2023، بلغ عدد متابعي حساب عزايزة على إنستغرام 17.5 مليون متابع، وهو ما يتجاوز عدد متابعي الرئيس الأمريكي جو بايدن (الحرب في غزة: “معتز عزايزة، هذا الصحفي الفلسطيني الذي يحمل آلام شعبه”، لا كروا (الفرنسية) ، 27 دجنبر 2023.

– رفعت العرير، الكاتب والشاعر والأستاذ والناشط الذي استهدفته إسرائيل وقتلته في 5 دجنبر 2023. وانتشرت قصيدة العرير الأخيرة “لو كان علي أن أموت” على نطاق واسع بعد اغتياله، وتُرجمت إلى أكثر من 40 لغة. (“مقتل الشاعر الفلسطيني رفعت العرير في غزة”، الغارديان، 8 دجنبر 2023).

– وائل الدحدوح، الصحفي الفلسطيني ومدير مكتب الجزيرة في غزة، الذي قُتلت عائلته وجُرح هو، لكنه ظل يواصل تقديم تقارير بطولية عن المجازر في غزة. أسبوع بعد نشر هذا المقال باللغتين الإنجليزية والفرنسية، تم قتل ابن وائل، حمزة الدحدوح وهو صحفي كذلك، وذلك جراء عملية مركزة ومبيتة من قبل الجيش الإسرائيلي. 

– القس الدكتور منذر إسحق وهو راعي كنيسة الميلاد الإنجيلية اللوثرية في بيت لحم، وعميد كلية بيت لحم للكتاب المقدس، ومدير مؤتمرات المسيح عند الحاجز. وقد لقي كتابه الأخير “الجانب الآخر من الجدار: رواية مسيحية فلسطينية عن الرثاء والأمل” (2020) صدى عالميا في كثير من الأوساط. وكان بمناسبة أعياد الميلاد  ألقى خطبته الشهيرة “المسيح في الركام” والتي أعلن فيها أنه “لو ولد المسيح اليوم، فإنه سيولد تحت ركام غزة”. وقد كان عِظةً قوية غطتها حتى مجلة التايم الأمريكية المحسوبة على وسائل الإعلام المهادنة والمناصرة لإسرائيل والخائفة من سيف اللوبي المناصر لإسرائيل (“قس بيت لحم يلقي عظة عيد الميلاد “المسيح في الأنقاض” وسط النزاع في غزة”، التايم، 24 دجنبر 2023).

– أضف على هذا المئات من الناشطين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وعلى مستوى وسائل التواصل الاجتماعي، وفلسطينيي الشتات وأساتذة الجامعات، والأطباء، ونشطاء حقوق الإنسان، وموظفي الأمم المتحدة (ما يقرب من 150 منهم استهدفتهم إسرائيل وقتلتهم في تَحَدٍّ  سافر للقوانين الدولية)، ومؤثري ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، وكثيرون غيرهم ممن تبوأوا مركزا  طليعيا داخل هذه الدعوة العالمية للعمل من أجل “فلسطين حرة”، رغم القتل والقمع والاستهداف.

– ولكن أيضاً أكثر من مائة صحفي فلسطيني قتلوا عمداً على يد الجيش الإسرائيلي لتغطية الفظائع المرتكبة في غزة. للاطلاع على أسمائهم (اعتبارًا من 23 دجنبر 2023)، راجع لجنة حماية الصحفيين، “ضحايا الصحفيين في الحرب بين إسرائيل وغزة” لجنة حماية الصحفيين، (https://cpj.org/2023/12/journalist-casualties-in)

هذا في الوقت الذي يلجأ فيه الصحفيون والناشطون الذين ما زالوا يغطون الفظائع على الأرض إلى لعبة الغميضة القاتلة مع القناصة الإسرائيليين. ولأن إسرائيل منعت الصحفيين من دخول غزة ما لم يكونوا مندمجين داخل الجيش الإسرائيلي، فإن الأصوات الفلسطينية على الأرض وفي الشتات كانت بمثابة عين وأذن العالم، وهو يرى،  مصدوما، على الهواء مباشرة وفي الفضاء الأزرق، وقائع الإبادة الجماعية بتفاصيلها المفجعة والفظيعة.

وتشمل الأصوات الأخرى التقدميين والليبراليين والمدافعين عن حقوق الإنسان من جميع أنحاء العالم.

القائمة طويلة، لكنها تضم كتابًا ومؤثرين وصحفيين وسياسيين وناشطين مثل:

– سارة ويلكنسون، وهي مؤثرة بريطانية مشهورة وناشطة من أجل الحرية والعدالة في فلسطين وتتعرض لحملات معادية من أصوات مناصرة للخط الصهيوني باستمرار.

– كايتلين جونستون، صحفية مستقلة من ملبورن، أستراليا، تنشر كتاباتها السياسية على موقع Medium وعلى صفحتها على الفيسبوك. لها معرفة قوية بالقضية وانتقاداتها لاذعة ولها أتباع كُثْرٌ على موقع X وعلى ميديوم وتفتخر بأن كتاباتها هي 100 % مدعومة من طرف قرائها وليس من أي جهة أخرى.

– كاتي هاربر، الصحفية الأمريكية اليهودية التي تنتج برنامج “كاتي هاربر شو”والتي طردتها “The Hill” بسبب دفاعها عن النائبة الفلسطينية/الأمريكية رشيدة طليب، والتي وصفت إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري. 

– دومينيك دو فيلبان، سياسي وكاتب فرنسي مشهور شغل منصب رئيس وزراء فرنسا في الفترة من 31 ماي 2005 إلى 17 ماي 2007 في عهد رئاسة جاك شيراك.

– كريس هيدجز، صحفي ومؤلف ومعلق وقس مسيحي أمريكي يكتب عمودًا أسبوعيًا في Scheerpost ويُنشِّط “تقرير كريس هيدجز” على “شبكة الأخبار الحقيقية”. 

– مهدي حسن، الصحفي والناشط البريطاني الأمريكي البليغ والمؤثر المعروف و الذي تم إلغاء برنامجه “مهدي حسن شو” على قناة MSNBC في نونبر 2023 لأنه لم يكن لطيفًا مع مسؤولي الحكومة الإسرائيلية. في بداية 2024 أعلن استقالته من MSNBC.

– أناستازيا ماريا لوبيس، طبيبة دنماركية نشيطة للغاية في مجال” X” ومدافعة متحمسة عن القضية الفلسطينية تُتَّهم دائما بمعاداة السامية في الدانمارك وأوروبا.

– كيم إيفرسن، المذيعة والصحفية الأمريكية الشهيرة.

– آرون ماتي، الكاتب والصحفي الكندي ،والمنتج الذي يستضيف برنامج “Pushback with Aaron Matee” على “The “Grayzone والذي يتولى دور الاستضافة منذ يناير 2022 على البودكاست Useful Idiots. 

– جيمس بامفورد، المؤلف الأمريكي الدائع الصيت والمخرج السينمائي المرشح لجائزة إيمي والحائز على جائزة المجلة الوطنية للتقارير. مقالته في صحيفة The Nation بعنوان “من يمول مهمة الكناري؟ داخل عملية جمع المعلومات التي تستهدف الطلاب والأساتذة المناهضين للصهيونية” هي جزء من كتابه الأخير: “الجواسيس الأجانب، الجواسيس، المخربون، وانهيار الاستخبارات الأمريكية المضادة”، يناير 2023). 

– يانيسفاروفاكيس، اقتصادي وسياسي يوناني (عضو سابق في حزب سيريزا ووزير المالية السابق في عام 2015)، والذي يشغل منذ عام 2018 منصب الأمين العام لحركة الديمقراطية في أوروبا 2025 (DiEM25)، وهي حركة يسارية سياسية شاملة شارك في تأسيسها عام 2016.

– أوين جونز، كاتب عمود بريطاني (الجارديان، و النيو ستايتسمن، والتريبيون)، ومعلق سياسي (سلسلتان أسبوعيتان على شبكة الإنترنت، واحدة على شكل “شو” والأخرى “بودكاست”)، وصحفي ومؤلف وناشط يساري. من القلائل الذين اطلعوا على الفيديو الذي وضعه الجيش الاسرائيلي اعتمادا على الفيديوهات التي صورها مقاتلو حماس يوم 7 أكتوبر ومصادر أخرى وعلى إثر ذلك وَضَعَ بودكاستا قويا دحض من خلاله ما قيل حول قطع رؤوس الرضع والاعتداء الجنسي على النساء.

– جوناثان كوك، كاتب وصحفي مستقل بريطاني (ذا ناشيونال وميدل إيستآي)، كان يقيم سابقاً في الناصرة، ويكتب بشكل متكرر عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

– هوارد بيكيت، اشتراكي ونقابي بريطاني مشهور.

– أرنو برتراند، رجل أعمال وناشط فرنسي. 

– جاك شيلدز، مصارع سابق في UFC وفريق Strikeforce للوزن المتوسط سابقًا.

– جاكسون هينكل، معلق سياسي أمريكي ومؤثر على وسائل التواصل الاجتماعي، يستضيف البرنامج السياسي “The Dive with Jackson Hinkle”. أحد مؤيدي MAGA ولكنه مع ذلك يبقى مدافعًا نشطًا عن القضية الفلسطينية.

– أيمريك كارون، سياسي فرنسي وصحفي سابق في الإذاعة والتلفزيون ويمثل الدائرة الثامنة عشرة لباريس في الجمعية الوطنية الفرنسية منذ عام 2022. 

– باسم يوسف، ممثل وكوميدي ومقدم برامج تلفزيونية وجراح مصري، اشتهر في مسيرته الإعلامية بتقديم برنامج “البرنامك”، وهو برنامج كوميدي ساخر يركز على السياسة المصرية، من عام 2011 إلى عام 2014. يلقب بـ “جون ستيوارت المصري” نسبة إلى الكوميدي الأمريكي الساخر.

– محمد صفا، دبلوماسي لبناني، الممثل الرئيسي لمنظمة PVA غير الحكومية لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة والمعتمد لدى مكتب الأمم المتحدة في جنيف. 

– ماريو نوفل، رجل أعمال أسترالي مقيم في دبي ومؤثر دائم عبر العالم…

وقد لعبت هذه الأصوات النقدية والمؤثرة والقوية والعشرات غيرها بشكل لا هوادة فيه، دورًا أساسيًا في نقل الحقيقة من موقع “خارجي”، ولكنها دافعت بحزم عن العدالة والقانون الدولي، وعارضت القمع والإبادة الجماعية.

 وهؤلاء محترمون ومعروفون في مجالهم وفي سياقهم السياسي والاجتماعي، ويستمع إليهم ملايين الأشخاص وينقلون محتواهم ويتفاعلون مع ما يقولونه وينشرونه.

إنهم يقودون النقاش، ولكن من زاوية مختلفة عن المثقفين اليهود أو الناشطين الفلسطينيين. وبينما يعيش اليهود الغير الصهاينة والناشطون الفلسطينيون الاحتجاج عاطفياً وعقلياً ووجدانيا، فإن هذه الأصوات “الخارجية” تعمل على المستوى الأخلاقي والفكري، باسم إنسانية ممكنة ومنصفة وعادلة. وكانت صرختهم، “أين إنسانيتكم؟”، بمثابة قوة أخلاقية قوية ساهمت في تعبئة الكثيرين عبر أنحاء المعمور ضد العدوان ومن أجل “فلسطين حرة.”

وبينما ظل الساسة الغربيون البارزون صامتين، مع دعم البعض علناً للهجوم الإسرائيلي على غزة وتزويدها بالأسلحة والغطاء الدبلوماسي، أظهر رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، والبلجيكي ألكسندر دي كرو، والاسكتلندي حمزة يوسف، والأيرلندي ليو فارادكار الشجاعة واتخذوا موقفاً ضد المجازر وآلة الحرب الإسرائيلية.

وكذلك وقف البابا والرئيس البرازيلي لولا والعديد من الزعماء الأفارقة والعرب والآسيويين إلى جانب العدالة والحرية للفلسطينيين. وقدمت جنوب إفريقيا دعوة أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل متهمة إياها باقتراف إبادة جماعية في حق سكان غزة وهي الدعوة التي سيستمع قضاة المحكمة بشأنها  لكل الأطراف يوم 11 و12 يناير 2024.

وأظهرت تصويتات الأمم المتحدة أن الأغلبية الساحقة من المجتمع الدولي قد اصطفت إلى جانب العدالة والحقوق الفلسطينية وحق سكان غزة في الحياة. 

لقد أضاعت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون الفرصة لقيادة العالم، تاركين الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا تتبوأ هذا الدور للدفاع عن القانون الدولي والحقوق وصار “خصوم أمريكا المفترضين” (خصوصا دول البريكس) متحالفين بشكل موضوعي ليس فقط مع شعوب دول الجنوب ولكن مع جميع دول وشعوب العالم، بما في ذلك شعوب أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية.

ومن خلال إعطاء إسرائيل الضوء الأخضر لتقتيل الفلسطينيين في غزة، عزل زعماء الغرب أنفسهم عن اهتمامات كافة شعوب العالم. إن هذا الوعي العالمي المتجدد بدأ يلتمس طريقة نحو آليات جديدة للنضال والتعبئة، مُدرِكاً تمام الإدراك أن القيم الغربية هي سيف ذو حدين ينطبق، بطريقة أورويلية غريبة، على البعض دون الآخرين.

ومن المرجح أن تكون الريادة الأخلاقية للغرب قد أفلست إلى غير رجعة. ولهذا السبب لا يحتج الناس عبر العالم ضد المجازر في غزة فحسب، بل وأيضاً ضد دعم الزعماء الغربيين لهذا الهجوم في ضرب صارخ للقيم التي مافتيء  الغرب يتغنى بها منذ زمان.

ولم تسلم أي بقعة في العالم ممن الاحتجاجات حيث دأب الكثير على التجند والتعبئة والتنظيم والتشبيك، وخرجوا  للسير في الشارع العام، وهتفوا بالشعارات في ملاعب كرة القدم، و ما فتئوا ينظمون اعتصامات في قاعات الكليات، وينظمون مسيرات بالشاحنات على الطرق السريعة، ويقتحمون الاجتماعات لتوصيل الرسائل قبل أن يطردهم الأمن، ويؤلفون ترانيم عيد الميلاد ويغنونها أمام مراكز التسوق، ويحضرون خطب للقساوسة الفلسطينيين أو للقساوسة المؤيدين للفلسطينيين، وينظمون مناظرات ومؤتمرات، ويؤلفون الأغاني ويتبادلونها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويضعون قوائم الشركات التي يدعون لمقاطعتها بسبب موقفها المؤيد للصهيونية، وما إلى ذلك.

لم أشهد من قبل هذا الكم الهائل من التعاطف حول قضية مركزة، متمركزة حول هدف واحد ألا وهو “وقف إطلاق النار”، ولكنه هدف يحمل في طياته سُمْكا من المطالب الحقوقية والتاريخية تخدم القضية الفلسطينية وقضايا أخرى يعتبرونها عادلة متعلقة بالتحرر ومحاربة التمييز العنصري

إن التعبئة هائلة ولم تكن أبدًا بهذه القوة والتنظيم والغضب، ولكنها دقيقة وفعالة إلى حد كبير. وقد نجحت المقاطعة، بل وأعطت ثمارا، كما يتضح ذلك من إصدار العديد من الشركات بيانات تقول فيها إنها توقفت عن دعم إسرائيل أو أعلنت تعاطفها مع القضية الفلسطينية.

أما على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي فقد تم كسب المعركة لصالح فلسطين حيث أنالانستجرام والفايسبوك والتيكتوك و الإكس وعشرات المنصات الأخرى مليئة بالرسائل والمحتوى، سواء الصوتي أو المرئي، ومقتطفات صحفية عن سياسة الصراع وتاريخه وجغرافيته وماضيه وحاضره وتفاصيله وآلامه وبطولاته.

كما أنه يجري يوميا تطوير طرق مبتكرة لتوصيل الرسالة، حيث يتم تحميل الرسوم الكاريكاتورية و المرسومة بالفوتوشوب والصور ومقاطع الفيديو والأغاني بالآلاف يوميًا حتى يتمكن العالم من رؤية الفظائع، ويشهد “الإبادة الجماعية”الجارية، كما يسميها الكثيرون. وهؤلاء الذين يُحمِّلون ويتقاسمون ويناقشون هذه المحتويات لا يكتفون بذلك بل يقومون بدعوات للعمل، وللتظاهر وتوقيع الرسائل والعرائض ومكاتبة المسؤولين للدعوة إلى وقف إطلاق النار، وجمع وتوزيع المساعدات الإنسانية، والدعوة إلى إنهاء الاحتلال ومعاناة الفلسطينيين.

لقد استيقظ العالم على حقيقة صادمة وهي أن الفلسطينيين كانوا ضحايا القمع الإسرائيلي منذ 75 عاما، وهذا شيء كانت تحاول الشعوب والحكومات العربية إيصاله إلى المنظومة الدولية منذ زمان، ولكن إسرائيل، وبمساعدة الغرب، تمكنت دائما من إقناع العالم بأنها هي الضحية طوال هذا الوقت. ولهذا السبب يشعر رواد وسائل التواصل الاجتماعي بالغضب ويتعهدون بعدم الصمت بعد الآن، والتحدث علنًا، وعدم التسامح مع القمع بعد الآن.

ومع ذلك، يواجه الرواد أنفسهم شكلاً آخر من أشكال القمع: حيث تستخدِم منصات “Meta” و”X” أساليب مختلفة لإسكات العناصر الأكثر خطورة أو حظرها جزئيًا (“حظر الظل”أي التقليل من الحضور لتقليص عدد اللايكات وعدد عمليات إعادة المشاركة). على الرغم من أن “ميتا” ذكرت أن هذا لا يعدو عن كونه خطأ تقنيا فقط (مورغان سونغ، “ميتا لديها مشكلة انحياز معتدل، ليست مجرد “خطأ”، هذا قمع للأصوات الفلسطينية” تك كرانش، 23 أكتوبر 2023)، فإن روادإنستغرام يعرفون بأن ميتا تحظر بعض محتوياتهم المساندة لفلسطين .

 إن المنصة معروفة بتاريخها الطويل والذي يتميز بأشكال متعددة من التحيز ضد المحتوى الفلسطيني، وقد مر العديد من الرواد بتجارب سيئة مع اليد الخفية للرقابة التي تقلل في كثير من الأحيان من تأثير الأصوات المؤيدة للفلسطينيين.

هناك قوة أخرى تقمع الأصوات المؤيدة للفلسطينيين وهي وسائل الإعلام الرئيسية في الدول الغربية. لقد كانت وسائل الإعلام الغربية الرئيسية مؤيدة لإسرائيل بشكل مروع، مما أدى بها أن تكون غير ذات صلة بمئات الملايين من الناس الذين يريدون معرفة الواقع على الأرض. ومن الغريب أن يرى العالم أن وسائل الإعلام الغربية تنتج تقارير متحيزة تكرر المواقف الرسمية للحكومة الإسرائيلية، وهي تعلم أن الواقع على الأرض قاتم ومروع ووحشي ومحفوف بالموت. عندما يجرؤ بعض الصحفيين على التحدث علنًا، يتم توبيخ القنوات عن طريق إزالة الإعلانات، أو يتم فصل هؤلاء الصحفيين أنفسهم أو إعادة توزيعهم بعيدًا عن برامج وقت الذروة.

كما تعاقب وسائل الإعلام الغربية الصحفيين الذين يجرؤون على القيام بعملهم. إن القيام بعمل الصحفي بطريقة “مهنية” أعيدت صياغته من طرف القنوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية (ناهيك عن الألمانية) ليعني بشكل سخيف “تكرار الخط الإسرائيلي الرسمي”: أي “لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها؛ وإسرائيل هي الضحية هنا؛ وقد عُرض السلام على الفلسطينيين، لكنهم رفضوه. ولم لا تقبل الدول العربية الفلسطينيين في بلدانها؟ وانتقاد إسرائيل هو ضرب من اللاسامية بالطبع…”.

ولا تكتفي بعض وسائل الإعلام الفرنسية وفوكس نيوز بتكرار هذه المغالطات، بل إنها تحولت إلى شبه غرف حرب اسرائيلية، حيث تُقدَّم النصائح حول كيفية القضاء على حماس واحتواء المواقف الوطنية الفلسطينية. إنهم يتحدثون عن “نزع التطرف” عن المجتمع الفلسطيني دون أن يذكروا ولو للحظة واحدة  أن الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين تدعم المجازر في غزة ونظام الفصل العنصري، فضلاً عن سياسات التطهير العرقي في الضفة الغربية وهي مواقف ليست متطرفة فقط ولكنها ذات أبعاد إبادية.

ولهذا السبب فإن أحد الأضرار الجانبية لهذه الصحوة العالمية هو أن وسائل الإعلام الرئيسية فقدت مصداقيتها تمامًا لدى  الجيل “Z “والمجموعات الأخرى التي تتظاهر من أجل فلسطين. أضف إلى هذا أنه يتم فضح تغطياتهم المنحازة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويتم انتقادها وتفكيكها من قبل المؤثرين الشباب الذين يعرفون كيفية فك شفرات التحيز المؤيد لإسرائيل في وسائل الإعلام الرئيسية في الدول الغربية.

أما الضرر الجانبي الثاني فهو فشل وإفلاس آلة الدعاية الإسرائيلية الهائلة. طورت إسرائيل عبر السنوات قدرة على وضع “حصبريات” أي شروح تستهدف العالم الخارجي تستعمل فيها شيئا من الحقيقة والكثير من الخيال والتوليف لإيصال إرسالية معينية لا علاقة لها بالواقع. ولكن ثقافة “الحصبرة” هاته كانت تغذيها أسطورة “الجيش الذي لا يقهر” و “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم” و “الجيش الذي يغذي صفوفه المواطنون” إلى غيرها…

كل هذه الأساطير تبخرت يوم 7 أكتوبر وكان من أضرارها الجانبية الآلة الدعائية ل”الحصبرة”. فشل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية ورد فعل الجيش والذي أدى إلى مقتل مئات الإسرائيليين على يد الجنود الإسرائيليين أنفسهم،  (انظر كريس هيدجز، “هل قتلت إسرائيل مدنييها في 7 أكتوبر؟”، شبكة الأخبار الحقيقية، 17 نونبر2023)، في 7 أكتوبر، فجَّر ثغرة كبيرة في أساطير مناعة جيش الدفاع الإسرائيلي وفعالية جهاز الاستخبارات الإسرائيلي. وكان لذلك تأثير الدومينو السلبي على الروايات التأسيسية ل”الحصبرات”  الإسرائيلية، خصوصا كون إسرائيل فقط تدافع على نفسها ضد عدوانية العرب والفلسطينيين،وكونها   “الديمقراطية الوحيدة” في الشرق الأوسط، و بالطبع كونها تجسيدا للحلم الصهيوني بالأرض الموعودة، وما إلى ذلك.

لقد تمت مناقشة كل هذه الأساطير وتحليلها وتفكيكها وفك شفراتها من قبل اليهود والفلسطينيين، بمساعدة الباحثين والأكاديميين والسياسيين وجنرالات الجيش المتقاعدين والصحفيين وذوي النفوذ، وجميعهم يتوفرون على معرفة دقيقة بالحقائق والتاريخ والسياسة والواقع.

لقد بدت إسرائيل خصوصا كما يتصورها الصهاينة ويسيرها المتطرفون التوراتيون، كيانًا مبنيًا على الأكاذيب والتحريفات والأساطير، معززًا بسرديات “حصبرية” ترددها بطاعة وتكبير وسائل الإعلام الغربية ومراكز الأبحاث والأوساط الأكاديمية الغربية، وبدا للكل أنه حان الوقت لتفكيك هذه السرديات وتمحيص تناقضاتها وفضح مضمراتها. وقد خلُص الجميع بأن هذا الصرح الخطابي لم يخدم سوى العنف و أجندة صهيونية استعمارية متجذرة، والكل  على حساب وطن حقيقي لليهود والفلسطينيين، إما في دولة واحدة أو في دولتين تعيشان جنبا إلى جنب في سلام .

كان تأثير التعبئة لتفكيك الأساطير والعمل من أجل السلام الحقيقي عميقا على الأفراد والجماعات وربما سيكون به تحول جدري بعيد المدى. ما يحدث في غزة وفي فلسطين مفصلي على مستوى الحقوق والقانون الدولي والعلاقات الدولية من جهة وكذا على مستوى نضالات من يسعون لوضع نظام أكثر عدلا مبنيا على قيم كونية للتعايش والسلام والعدل من جهة أخرى. الحرب على غزة لها ما قبلها ولها ما بعدها.

وللحرب الإسرائيلية ضد شعب غزة تأثير “تحولي” على نظرة الكثير من الناس للعالم ومآسيه وآماله وعلى علاقات التسلط والسلطة الموجودة داخله. لقد لاحظ الكثير بأنهم أصبحوا أكثر “تطرفا” لصالح قضايا العدل؛ من كان يهادن أصبح أكثر نقدا؛ ومن كانت له ثقة في ريادة الغرب “العادلة” تبخرت هذه الثقة حين وقفت كثير من الدول الغربية إلى جانب الظلم.

ولكن المثير في الأمر أخيرا هو أن من ناصروا فلسطين أضفوا طابعا أكثر إنسانية على علاقتهم بالعالم وقضاياهم. إن التركيز على “البعد الإنساني” مهم بالنسبة للعديد من الأجيال الشابة، والتقدميين، والطلاب، والمعلمين، والجماعات الدينية، والمواطنين العاديين، لأنه ينبني على الإحساس بوجود “مشترك كوني”أكثر من وجود “التفرد” و “الاستثناء” ، وهذا “المشترك” هو آلة خطابية مفهوما  متداولا بكثرة في خطابات الناشطين في مجال تغير المناخ.

لكن هذا الشعور بالتضامن العالمي من أجل قيمة وجودية أساسية يعني أن الحرب ضد المدنيين في غزة أثارت شعوراً بالقلق بين العديد من المجموعات.

ويعتقد الناس أنه إذا انتصرت  قوى القمع والسيطرة (وخاصة تلك التي تستخدم الخطاب التوراتي الدموي والقاتل مثل نتنياهو)، فإن العالم قد يدخل في دوامة من العنف قد تكون مدمرة عالميا.

لقد تعلم هؤلاء أن الصمت في وجه الظلم لن يؤدي إلا إلى تفاقم هذا الظلم؛ وأن القوى المتحكمة في دواليب المال وصناعة الدمار ستفعل أي شيء، بما في ذلك إسكات وسائل الإعلام، والرقابة على الجامعات، وطرد الأشخاص، وقمع المتظاهرين، للحفاظ على “سردية” “إسرائيل الضحية والديمقراطية والمدافعة عن نفسها فقط ضد قوم لا يريدون السلام ويريدون الموت على أية حال” قائمة. ما تريدها الأيديولوجية الصهيونبة هو الحفاظ على هذه الردية سليمة دون أن يمسسها نقد ولا تفكيك ولا صدمة الحقيقة والواقع أي واقع الاحتلال والتطهير العرقي والاحتلال والتمييز العنصري والإبادة.

لقد تعلم الجميع وفهموا أن لهم القدرة،كمواطنين يؤدون الضرائب ويصوتون ويناضلون، على فضح الأساطير والروايات التي بني عليها التسلط في فلسطين، والدعوة إلى العمل من أجل معاقبة من يعطي السلاح والمال لمن يريدون بناء عالم قوامه الحرب والظلم والدمار، والتعبئة من أجل قول الحقيقة لأن في السكوت تواطؤ وخنوع، وفضح الأكاذيب عبر وسائل التواصل والتشبيك والنقاش وخلق فضاءات موازية لآليات الدعاية المتمثلة في وسائل الإعلام التقليدية المتواطئ هو غير وسيلة لخلق الاختلاف، لخلق واقع جديد أحسن وأكثر عدلا. وأخيرا  فهم الناس أن لهم القدرة على إلحاق الأضرار بالشركات التي تساند قمع الفلسطينيين عبر المقاطعة والتشهير والتظاهر.

هكذا وسط الدمار والإبادة ظهر بصيص أمل بأن الأفراد والمجموعات قادرة على فعل شيء، على العمل على خلق منظومة دولية أكثر عدلا وتضامنا وصيانة لحقوق الأفراد والمجموعات، و على ضمان مستقبل أكثر إشراقا للإنسانية جمعاء.

-لحسن حداد سياسي و أستاذ جامعي مغربي، عضو في حزب الحركة الشعبية شغل منصب وزير السياحة في حكومة بنكيران، منذ 3 يناير 2012 وبقي في هذا المنصب إلى غاية 2017.

Exit mobile version