يعتبر مجال مكافحة الفساد مجالا التقائيا تتقاطع فيه السياسة الحكومية مع سياسة باقي الفرقاء من مؤسسات حكامة ومجتمع مدني وقطاع خاص، كما يتعلق شق منه بالتعاون الدولي مع مختلف المنظمات والهيئات الدولية الداعمة للمجهودات الوطنية الأفقية أو القطاعية.
وتستمد عملية مكافحة الفساد مرجعيتها الوطنية من التوجيهات الملكية السامية حيث أن صاحب الجلالة الملك محمد السادس قد أشار في خطاب العرش لسنة 2011 على “أن التعاقد الاقتصادي الجديد، يقتضي الاهتمام بمنظومة الإنتاج الاقتصادي، وإذكاء روح المبادرة الحرة، خاصة من خلال تشجيع المقاولات الصغرى والمتوسطة، بما ينسجم مع روح الدستور الجديد، الذي يكرس دولة القانون في مجال الأعمال، ومجموعة من الحقوق والهيئات الاقتصادية، الضامنة لحرية المبادرة الخاصة، ولشروط المنافسة الشريفة، وآليات تخليق الحياة العامة، ولضوابط زجر الاحتكار والامتيازات غير المشروعة، واقتصاد الريع، والفساد والرشوة “.
وهو ما أكد عليه أيضا عبر الرسالة الملكية الموجهة إلى المشاركين في الدورة الرابعة لمؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (مراكش 24 أكتوبر 2011.)؛ حيث أبرز جلالته على أنه “قد أضحت مسألة مكافحة الفساد في مقدمة الانشغالات الملحة للمواطنين، ذلك أن آفة الرشوة لم تعد اليوم مجرد مشكلة داخلية لهذا البلد أو تلك المنطقة، بل أصبحت معضلة ذات أبعاد دولية متداخلة مع عدة جرائم أخرى عابرة للحدود، ساهمت العولمة والتقدم التكنولوجي في تعقد أنماطها وأشكالها”.
أما فيما يخص المرجعية الدولية فقد انخرط المغرب في مجموعة من الاتفاقيات الدولية الرامية لمحاربة الفساد؛ كالاتفاقية العربية لمكافحة الفساد ج.ر عدد 6228 بتاريخ 6 فبراير 2014. إلى جانب إعلان مراكش للوقاية من الفساد الذي تم اعتماده خلال الدورة الخامسة لمؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ببنما2013؛ وكذا اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي تشكل إطارا عاما لبرامج الوقاية ومكافحة الفساد يناير 2008. وهي ذات الاتفاقية التي سجل المغرب حضوره خلال الذكرى العشرين لها بأطلاطنا بالولايات المتحدة خلال الفترة الممتدة من 11 إلى 15 دجنبر 2023 والتي عرفت مشاركة 190 دولة عضوا في الاتفاقية المذكورة إلى جانب المغرب الذي استعرض إنجازاته في هذا الإطار.
وتكريسا لهذا الطرح فقد نص دستور المملكة لسنة 2011 في عدد من بنوده على دعم كل الآليات التي من شأنها ترسيخ قيم الشفافية وتعزيز النزاهة والإنصاف والحكامة الجيدة ومكافحة كل مظاهر الفساد من خلال ربط المسؤولية بالمحاسبة، وذلك من أجل الحفاظ على الأموال والممتلكات العمومية.
في هذا الباب، ومن أجل تخليق الحياة العامة وبناء الثقة لدى المواطن ولدى المجتمع الدولي في المؤسسات والهيئات العامة، تم تعزيز الأدوار الرقابية وأدوار التتبع والتقييم والتشاور والوساطة الموكلة للمؤسسات الدستورية المعنية بترسيخ الحكامة الجيدة.
وفي هذا السياق، اعتمدت المملكة كخطوة مفصلية في هذا الصدد الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد في سياق دينامية وطنية تتميز بالوعي المتزايد لدى المواطنين والمجتمع المدني بآفة الفساد.
ولقد جعلت هذه الاستراتيجية من بين أهدافها تعزيز ثقة المواطنين من خلال جعل الفساد في منحى تنازلي وتوطيد ثقافة النزاهة في عالم الأعمال وتحسين مناخه مع تعزيز موقع المملكة على الصعيد الدولي، وقد تم إعدادها وفق مقاربة مندمجة ومتكاملة، كما تم التركيز على الإجراءات العملية وذات التأثير المباشر على الفساد من خلال اعتماد حقيبة مشاريع موزعة على عشرة برامج موضوعاتية تروم تحقيق 31 هدفا استراتيجيا، يتولى تنسيقها بعض القطاعات الوزارية إلى جانب ممثل عن القطاع الخاص، ويتم تنفيذها على مدى عشر سنوات من 2016 إلى 2025.
ومن أجل مأسسة حكامة ناجعة تروم التنزيل الجيد للبرامج الكفيلة بتعزيز النزاهة، تم إحداث لجنة وطنية لمكافحة الفساد وفق مقتضيات المادة الثانية من المرسوم رقم 2.17.582 الصادر بتاريخ 6 نونبر 2017، وهي لجنة يرأسها السيد رئيس الحكومة وتضم في عضويتها ممثلين عن بعض السلطات الحكومية والهيئات والمنظمات ذات الصلة فضلا عن ممثلين عن القطاع الخاص والمجتمع المدني، بالإضافة إلى العمل على إطلاق البوابة الرسمية للنزاهة.
من زاوية ثانية؛ ويهم الأمر هنا المكتسبات التي حصلها المغرب خلال هذه السنة في مسار مكافحة الفساد فقد بصمت 2023 على نوع من التحرك الإيجابي في هذا الصدد؛ ترجمته عدة خطوات للمملكة في هذا الإطار أبرزها توقيع الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، على اتفاقيتي شراكة في مجال الوقاية من الفساد، الأولى مع هيئة الوطنية للمعلومات المالية، والثانية مع مجموعة البنك الدولي.
إلى جانب السير قدما في الخلية التي أحدثتها وزارة العدل لتتبع ودراسة قضايا الفساد وتحليلها واستخلاص قواعد الاجتهاد القضائي منها، كأرضية تسمح بتطوير الآليات القانونية والقضائية وتقنيات البحث والتحري لمكافحة جرائم الفساد المالي والإداري.
وامتثالا للتوجيهات الملكية السامية التي شددت على مبدأ الجدية كمنهج متكامل يقتضي ربط ممارسة المسؤولية بالمحاسبة، وإشاعة قيم الحكامة والعمل والاستحقاق وتكافؤ الفرص؛ شكل توجه المغرب نحو تبني رقمنة الإدارة و توجيهها نحو المواطن، نوعا من الذهاب نحو اعتماد الثقة الرقمية التي تعتمد البيانات المنفتحة، وبالتالي الدعم والمواكبة الدائمة للإدارة، مما يساهم في تحقيق إصلاحات هيكلية قادرة على خلق دينامية لتغيير لا رجعة فيه، في مجال النزاهة والوقاية من الفساد ومحاربته.
بدوره أوضح المجلس الأعلى للحسابات وانطلاقا من مهامه الموجهة لتوضيح الاختلالات الممكنة أن تقريره لهذه السنة ذهب نحو التركيز على الخلاصات المتعلقة بالإشكاليات الكبرى ذات الصلة بالتدبير العمومي، مع عرض سبل الإصلاح والتوصيات المقترحة لتحسين تسيير المالية العمومية وتدبير المرافق العمومية والأجهزة والبرامج والمشاريع التي شملتها المراقبة أو التقييم وتتبع مدى تنفيذها، وكذا مآل الأحكام والقرارات القضائية التي أصدرتها المحاكم المالية بغية محاربة الفساد المالي.
وفي إطار تنظيم المنافسة الحرة والعادلة، وكذا ضمان الشفافية والعدالة في العلاقات الاقتصادية، انتهج مجلس المنافسة خلال هذه السنة أسلوب التحليل والتنظيم. التي تقتضيه المنافسة في الأسواق وبالتالي مكافحة الممارسات غير التنافسية والممارسات التجارية غير العادلة وعمليات التركز الاقتصادي والاحتكار.
كما لا يمكن في هذا الصدد إغفال دور النيابة العامة في مسلسل محاربة الفساد والرشوة عبر تسخيرها لكافة الاليات الممكنة في هذا الصدد أبرزها الخط المباشر للتبليغ عن مثل هذه القضايا.
إن جدية المغرب في هذه النقطة المتعلقة بمحاربة الفساد؛ أصبحت تتضح جليا ذلك أن الأحداث الأخيرة التي ارتبطت بالجرائم المالية والفساد كان العنوان الأبرز لها هو ربط المسؤولية بالمحاسبة وبالتالي يمكن أن نقول أن مؤشر الفساد بالمغرب يعرف نوعا من الركود مؤخرا ذلك مع انتشار ثقافة التبليغ والتوجه نحو الرقمنة والحفاظ على الشفافية في المجال العام.
أن انخراط المغرب في مجموعة من المشاريع التي تهدف إلى تعزيز مبادئ النزاهة والشفافية ومكافحة الفساد مع أنه يشكل حسنة مشرفة في مساره الديمقراطي، إلا أنه يبقى رهين نقطة مهمة وهي أن التواصل بخصوصها والمعلومات المتعلقة بها يبقى محدودا جدا. ذلك أنه، يبقى من الصعب الحصول على معلومات مجمعة تتعلق بهذا الموضوع في بوابة مخصصة لذلك. وهو ما يترتب عنه صعوبة في تحقيق المشاركة المواطنة وانخراط المواطنين في السياسات العمومية الفعالة وتعزيز قيم الشفافية والنزاهة.